كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مُؤَيِّدَةٌ لِلثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا. أَمَّا تِلْكَ فَبَيَانٌ لِحُجَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ فَجَحَدُوا بِهَا، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَأَنَّ عِقَابَهُمْ هُنَالِكَ حَقٌّ وَعَدْلٌ- وَبَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْفُسِهَا لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ بَلْ بِظُلْمِهَا لِأَنْفُسِهَا ظُلْمًا لَا عُذْرَ لَهَا فِيهِ- وَبَيَانُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادٍ دَرَجَاتٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَحَاصِلُ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي قَفَّى بِهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَيْضًا فِي بَيَانِ عِقَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَتَحْقِيقِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَلَا لِحَاجَةٍ لَهُ تَعَالَى فِيهِ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، بَلْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مَقْرُونٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَهَاكَ تَفْصِيلُهُ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ.
خَتَمَ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} أَيْ بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهَا وَمُجَازٍ عَلَيْهَا وَبَدَأَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} لِإِثْبَاتِ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَحْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَوِ الْقَصْرَ كَمَا قَالُوا. أَيْ وَرَبُّكَ غَيْرُ الْغَافِلِ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ هُوَ الْغَنِيُّ الْكَامِلُ الْغِنَى، وَذُو الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ أَنَّ الْغِنَى هُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَكَمَالِ مَعْنَاهُ، بَلْ أَصْلُ مَعْنَاهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَالصِّفَاتُ الْكَمَالِيَّةُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ؛ إِذْ كَلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَمُحْتَاجٌ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى قِوَامَ وَجُودِهِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْخَلْقِ هَذَا غَنِيٌّ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِأَهَمِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَغِنَى النَّاسِ مَثَلًا إِضَافِيٌّ عُرْفِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُسَمَّى غَنِيًّا كَثِيرَ الْحَاجَاتِ فَقِيرٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَالزَّوْجِ وَالْخَادِمِ وَالْعَامِلِ وَالطَّبِيبِ وَالْحَاكِمِ، دَعْ حَاجَتَهُ إِلَى خَالِقِهِ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [35: 15] وَقَدْ «كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ مَعَهُ» غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عَمَلِ الطَّائِعِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا إِلَى دَفْعِ عَمَلِ الْعَاصِينَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ بَلْ يَضُرُّهُمْ، فَالتَّكْلِيفُ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ يَكْمُلُ بِهِ نَقْصُ الْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ (مِمَّا يُسَمَّى بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ) أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» وَالْمُرَادُ بِإِطْعَامِهِ تَعَالَى وَكَسْوِهُ لِعِبَادِهِ خَلْقُهُ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَصْنَعُونَ مِنْهُ لِبَاسَهُمْ، وَبِاسْتِطْعَامِهِ وَاسْتِكْسَائِهِ طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ كَالْآيَاتِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى ذَا الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ وَحْدَهُ فَجَلِيٌّ ظَاهِرٌ عَقْلًا وَفِعْلًا وَنَقْلًا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَّا إِلَّا وَيَقْسُو وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ أَحْيَانًا، حَتَّى أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ كَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَمَا الْقَوْلُ بِمَنْ دُونَهُمْ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ذِي رَحْمَةٍ فَرَحْمَتُهُ مِنْ فَيْضِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى خَالِقِ الْأَحْيَاءِ وَوَاهِبِ الْغَرَائِزِ وَالصِّفَاتِ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا بِسَقْيٍ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فَأَخَذَتْهُ فَالْتَزَمَتْهُ- وَفِي رِوَايَةٍ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا- فَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟- قُلْنَا: لَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ- فَقَالَ: اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا». وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» رَوَيَاهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ» وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحْمَةَ رَحْمَتَانِ: صِفَةُ ذَاتٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَهِيَ لَا تَتَعَدَّدُ وَصِفَةُ فِعْلٍ وَهِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مِائَةَ قِسْمٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي نِسْبَةِ رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى لِبَيَانِ تَعْظِيمِ قَدْرِهَا، فَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنْ لَمْ يَقْدِرْهَا قَدْرَهَا وَيَا حَسْرَةً عَلَى مَنِ اغْتَرَّ بِهَا فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَنَسِيَ حِكْمَتَهُ فِي الْجَزَاءِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ حَادِي الْأَرْوَاحِ كَلَامٌ حَافِلٌ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْقَوْلِ فِيهَا هُنَا.
وَقَدْ بَيَّنَ الرَّازِيُّ وَجْهَ حَصْرِ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي اتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِمَا وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ، وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} اهـ.
أَقُولُ: إِنَّهُ يَعْنِي بِأَهْلِ السُّنَّةِ هُنَا الْأَشْعَرِيَّةَ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَعْذِيبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَتَنْعِيمَ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يُبَالِغُونَ فِي قَصْرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ عَلَى عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ، حَتَّى عَطَّلُوا بَعْضَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَأَوْجَبُوا عَلَى اللهِ مَا أَوْجَبُوا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْأَثَرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عِلْمًا وَإِيمَانًا؛ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ تَأْوِيلِ بَعْضِهَا بِرَدِّهِ إِلَى مَذْهَبٍ يَلْتَزِمُ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، أَوْ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ- كَمَا يُعَبِّرُ كُتَّابُ هَذَا الْعَصْرِ- ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ بِرَسُولِهِ الْمُعَانِدُونَ لَهُ وَاسْتِخْلَافَ غَيْرِكُمْ بَعْدَكُمْ يُذْهِبْكُمْ بِعَذَابٍ يُهْلِكُكُمْ بِهِ، كَمَا أَهْلَكَ أَمْثَالَكُمْ مِنْ مُعَانِدِي رُسُلِهِ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَيَسْتَخْلِفُ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَإِنْشَاءِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكُمْ أَوْ ذُرِّيَّةِ غَيْرِكُمْ أَحَقِّ بِرَحْمَتِهِ مِنْكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَيُقِيمُونَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ أَهْلَكَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ عَادَوْا خَاتَمَ رُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا وَجَحَدُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مَعَ اسْتِيقَانِهِمْ صِدْقَهُ، وَاسْتَخْلَفَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَبْلَهُمْ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَهَبَتْ بِهِ آيَاتُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِإِرْشَادِهِ فَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْظَمَ مُظْهِرٍ لِرَحْمَةِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحِهِمْ كَمَا شَهِدَ بِذَلِكَ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَخْلَفِينَ الْجِنُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْإِنْسِ وَلَا الْجِنِّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ عَجَائِبِ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَلَا الْإِبْهَامِ لِأَجْلِ ذَهَابِ الْخَيَالِ كُلَّ مَذْهَبٍ فِيهِ، بَلْ مَقَامَ الْإِنْذَارِ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمَحْفُوظِ التَّارِيخِ وَبَقَايَا الْعَادِيَاتِ وَالْآثَارِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْغِنَى وَالرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، هِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ النَّاسَ بِالْفَقْرِ وَوَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغَنِيِّ الْحَمِيدِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ: {وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [47: 38].
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهَلَاكَهُمْ فِيهَا أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَيْ إِنَّمَا تُوعَدُونَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ لَآتٍ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِلَّهِ بِهَرَبٍ وَلَا مَنْعٍ مِمَّا يُرِيدُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ كَمَا قَدَرَ عَلَى بَدْءِ خَلْقِكُمْ. وَهَذَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا. وَقَدْ قَرَّبَ الْعِلْمُ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَمْرَ الْبَعْثِ مِنَ الْعُقُولِ. بِمَا قَرَّرَهُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْعَالِمِ ثَابِتٌ أَصْلُهُ لَا يَزُولُ، وَإِنَّمَا هَلَاكُ الْأَشْيَاءِ وَفَنَاؤُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحَلُّلِ مَوَادِّهَا وَتَفَرُّقِهَا، وَبِمَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَوَادِّ الْمُتَفَرِّقَةِ وَإِرْجَاعِهَا إِلَى تَرْكِيبِهَا الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْأَحْيَاءِ، بَلْ تَصَدَّى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ لِإِيجَادِ الْبَشَرِ بِطَرِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ صِنَاعِيَّةٍ بِتَنْمِيَةِ الْبَذْرَةِ الَّتِي يُولَدُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَلَقَةً فَمُضْغَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ بِاتِّخَاذِ وَسَائِلَ أُخْرَى لِتَغْذِيَةِ الْمُضْغَةِ فِي حَرَارَةٍ كَحَرَارَةِ الرَّحِمِ أَنْ تَتَوَلَّدَ فِيهَا الْأَعْضَاءُ حَتَّى تَكُونَ إِنْسَانًا تَامًّا. وَقَدْ بَيَّنَ تَجْرِبَتَهُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَرَنَاهُ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ لِإِتْمَامِ الْعَمَلِ بِإِيجَادِ مَعَامِلَ لِإِيجَادِ النَّاسِ كَمَعَامِلِ التَّفْرِيخِ لِإِيجَادِ الدَّجَاجِ فِي خِطَابٍ قَرَأَهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَطِبَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْكَوْنِ فَأُعْجِبُوا بِنَظَرِيَّاتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِمْكَانَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ الْكَثِيرُ وُصُولَ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ. وَإِنَّ الْمُخْتَرِعَ الشَّهِيرَ إِدِيصُونَ أَكْبَرَ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَاءِ يُحَاوِلُ اخْتِرَاعَ آلَةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ لِأَجْلِ اتِّصَالِ النَّاسِ بِأَرْوَاحِ مَنْ يَمُوتُ وَاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تُعْنَى الْأَرْوَاحُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ مَا يَدَّعِيهِ الرُّوحِيُّونَ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْوُسَطَاءَ لِلْأَرْوَاحِ وَتَجَسُّدِهَا وَتَلَقِّيهِمْ عَنْهَا هَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا يَقُولُونَ أَوْ خِدَاعٌ كَمَا يَقُولُ الْمُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ؟ وَغَرَضُنَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا أَنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْعَالِمِ الْمُخْتَرِعِ الْكَبِيرِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُمْكِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَقَعٌ بِالْفِعْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ تَقْلِيدًا لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يُعِدُّونَ هَذَا مُحَالًا لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا وَيَرَى أَكْبَرُ عُلَمَاءِ الْمَادَّةِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُصُولُهُمْ إِلَيْهِ فِعْلًا فَهَلْ يَعْجَزُ عَنْهُ خَالِقُ الْبَشَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [41: 53: 54]. هَذَا وَإِنَّ كَلِمَةَ {تُوعَدُونَ} مُضَارِعٌ مَجْهُولٌ لِوَعَدَ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمَا- وَلِأَوْعَدَ الرُّبَاعِيِّ الْخَاصِّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ أَوِ الضُّرِّ. وَرَجَّحَ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي إِنْذَارِ الْكَافِرِينَ وَنَفْيِ الْإِعْجَازِ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ الرَّازِيُّ وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ. وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} يَعْنِي كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْوَعْدِ وَالثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} يَعْنِي لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحُكْمِنَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزَمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ غَالِبٌ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَرْجِيحِ فَنَاءِ النَّارِ. وَلَكِنَّنَا نَرَاهُ ضَعِيفًا وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ سَابِقٌ وَغَالِبٌ فِي أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْوَعِيدِ، كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ خَاصًّا بِالثَّوَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعِقَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [22: 72] وَقَوْلُهُ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ} [22: 47]. وَقَدْ خَتَمَ اللهُ هَذَا الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فِي هَذَا النِّدَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالدَّعْوَةِ أَوَّلًا، بِمَا يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيَحْرِصُ عَلَى خَيْرِهِمْ وَمَنْفَعَتِهِمْ بِبَاعِثِ الْفِطْرَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ كَانَتِ النُّعَرَةُ الْقَوْمِيَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَى مِنْهَا عِنْدَ الْمَعْرُوفِ حَالُهُمُ الْيَوْمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَكَانَ نِدَاؤُهُمْ بِقَوْلِهِ: يَا قَوْمِي جَدِيرًا بِأَنْ يُحَرِّكَ هَذِهِ الْعَاطِفَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَحْمِلُ الْمُسْتَعِدَّ عَلَى الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِمِثْلِ هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ وَأَوَاسِطَ سُورَةِ الزَّمَرِ وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْمَكَانَةُ فِي اللُّغَةِ حِسِّيَّةٌ وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَبَوَّأُهُ الْإِنْسَانُ، وَمَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ وَشَاكِلَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. إِنِّي عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِي وَشَاكِلَتِي الَّتِي هَدَانِي رَبِّي إِلَيْهَا وَأَقَامَنِي فِيهَا. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بَعْدَ حِينٍ مَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى فِي هَذِهِ الدَّارِ بِتَأْثِيرِ عَمَلِهِ. نَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي تَرَتُّبِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْمُنْبَعِثَةِ عَلَى عَقَائِدِهَا وَصِفَاتِهَا النَّفْسِيَّةِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْعَاقِبَةِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا. يُقَالُ: مُكِّنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ، وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمُقَامٌ وَمُقَامَةٌ. وَقَوْلُهُ: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} يَحْتَمِلُ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ أَوِ اعْمَلُوا عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالِهِ: عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ: أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ {إِنِّي عَامِلٌ} عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا. الْمَعْنَى اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مُصَابَرَتِكُمْ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيُّنَا تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ. وَطَرِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [41: 40] وَهِيَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّسْجِيلُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الشَّرُّ فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَصَّى عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِخِلَافِهِ اهـ.